في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
■ ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن الكفاح من أجل تثبيت وتطبيق حقوق الإنسان كان المركز الذى دارت حوله كافة محاور الحركة فى تاريخ المجتمعات البشرية. فعلى امتداد المراحل التاريخية المختلفة، وفى جميع الأوطان، كان سعى الإنسان، إلى إقرار حقه فى الوجود، وما يترتب على هذا الحق الأصلى من حقوق فرعية، وأخصها الحقوق المدنية والسياسية من جهة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى. كان هذا هو مركز النضال البشرى على وجه التحديد.
■ وقد دخل هذا النضال البشرى، مراحل متعددة، وحقق انتصارات كبيرة، كان من أبرزها الإنجازات التى كرستها الأديان السماوية، والمكاسب التى أحرزتها الحضارات الكبرى، فى تاريخ المجتمعات الإنسانية، مثل الحضارة اليونانية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية فى العصور الوسطى، والحضارة الأوروبية فى العصر الحديث، وكثيرة هى الأمثلة، التى يمكن أن نسوقها – نحن العرب – من الإسلام، لنؤكد جوهر دعوته، إلى حقوق الإنسان، أو من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وخاصة، فى حفظ حقوق الجماعات غير المسلمة التى لقيت فى كنف المجتمع العربى الإسلامى، أكرم معاملة، دون ما تفرقة، أو تعصب بسبب الدين، أو الأصل العرقى.
■ لقد شرع الإسلام – منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا – «حقوق الإنسان » فى شمول وعمق، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها وصاغ مجتمعه، فى أصول ومبادئ تمكن لهذه الحقوق وتدعمها. وفى الحضارة الأوروبية الحديثة، تحققت، علامات بارزة على طريق تأكيد حقوق الإنسان، نذكر منها وثيقة «المجناكارتا» التى صدرت عام ١٢١٥ لتسجل حقوق شعب إنجلترا، قبل الملك جون، ونذكر وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكى عام ١٧٧٦، التى صاغها الرئيس «جيفرسون» متأثرًا بآراء الفلاسفة الأوروبيين أمثال جون لوك، وروسو، وفولتير، والتى جاء فى مقدمتها: «إننا نعتقد أن الناس خلقوا متساويين، وقد منحهم خالقهم، حق الحياة، والحرية، والسعى نحو السعادة». وكذلك نذكر، وثيقة حقوق الإنسان التى صدرت بعد الثورة الفرنسية، لتسفه نظرية الحق الإلهى للملوك، ولتؤكد حق الناس جميعًا فى المساواة.
■ وفى عام ١٩٤٥ أرسى ميثاق الأمم المتحدة حجر الأساس ليتمتع الأفراد بمجموعة من الحقوق بعد أن بدت لواضعيه القبلة التى تربط بين تحقيق السلم والأمن الدوليين من جهة، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز من جهة أخرى. ولم تكتفِ الأمم المتحدة بتضمين ميثاقها عددًا من النصوص الخاصة بحقوق الإنسان، بل راحت تستكمل هذه النصوص باعتماد عدد من الصكوك والاتفاقيات الدولية الذى تشمل مختلف حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
■ وكانت الخطوة الكبرى على طريق تقنين وتدوين حقوق الإنسان، هى إصدار «الإعلان العالمى لحقوق الإنسان». التى أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى العاشر من ديسمبر ١٩٤٨. وقد كانت هذه الخطوة، تعبيرًا عن «عصر التنظيم الدولى» الذى وإن كان قد ظهر عام ١٩١٩، بقيام «عصبة الأمم» إلا أنه لم يتبلور كفكر ويتجسد كنشاط، إلا بعد نشأة الأمم المتحدة عام ١٩٤٥، وقد جاء هذا الإعلان انعكاسا للدور الجديد الذى باتت تلعبه الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والمنظمات الدولية الإقليمية، فى الحياة الدولية.
■ ويمتاز الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على ما سبقه من وثائق بشموله، وعالميته، فلقد ولد بعد حربين عالميتين، قاست ويلاتها البشرية كلها، وذلك من جراء عوامل التمييز السياسية والاجتماعية، وجاء ليكون قمة التطور فى هذا النطاق، بوصفه مستوى مشتركًا، لكافة الشعوب والأمم.
وقد عقب، رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، فى الجلسة التى أقرت الإعلان، على هذا الحدث الهام، فقال: «هذه هى أول مرة تقوم فيها، جماعة منظمة من الأمم بإعلان حقوق وحريات أساسية للإنسان، تؤيدها الأمم المتحدة جميعًا، كما يؤيدها الملايين من الرجال والنساء فى جميع أنحاء العالم، فإنهم مهما يكونوا على مسافة بعيدة، خليقون بأن يتجهوا إلى هذه الوثيقة، يستلهمونها العون والرشاد».
■ ويبدأ الإعلان بعدة مبادئ أساسية: الحق فى الحرية والمساواة، ومن ثم، فلا تفرقة بسبب العنصر أو اللغة، أو الدين، أو بسبب الوضع السياسى، أو الاجتماعى. وفى هذا المعنى تقول المادة الأولى من الإعلان: «يولد الناس أحرارًا، متساويين فى الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلًا، وضميرًا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء».
■ كما تقرر المادة الثانية، أن «لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات، الواردة فى هذا الإعلان، دون أى تمييز بسبب العنصر، أو الدين، أو اللون، أو الجنس، أو النوع أو الرأى السياسى، أو أى رأى آخر».
■ ويفصل الإعلان، بعد ذلك، نوعين من الحقوق: الحقوق المدنية والسياسية من ناحية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى.
■ وتشمل الحقوق المدنية والسياسية، التى نصت عليها المواد من ٣ إلى ٢١، حق كل إنسان فى الحياة والحرية وسلامة شخصه وحقه فى التحرر من العبودية والاسترقاق وحقه فى التحرر من التعذيب أو التعرض لأى شكل من أشكال المعاملة القاسية المهينة المنافية للكرامة الإنسانية، وحق كل إنسان فى أن يعترف بشخصه أمام القانون، وحق كل الناس فى حماية قانونية متساوية، وحق كل إنسان فى الالتجاء إلى المحاكم لدفع أى اعتداء، وحقه فى عدم القبض عليه أو حبسه أو نفيه بغير مسوغ قانونى، وحق كل إنسان فى محاكمة علنية أمام محاكم مستقلة نزيهة.
■ كما تؤكد هذه الحقوق أن كل متهم يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته، وأن لكل إنسان حق التمتع بحرمة حياته الخاصة، وحرمة أسرته وحرمة مسكنه، وكذا حقه فى اللجوء إلى بلاد أخرى والانتماء إلى أى جنسية، وحقه فى الزواج وتكوين الأسرة، وحقه فى التملك وفى التمتع بحرية الفكر والضمير والدين، وحرية الرأى والتعبير وحضور الاجتماعات والاشتراك فى الجمعيات، وحقه فى الإسهام فى شؤون بلاده والالتحاق بالوظائف العامة على أساس المساواة.
أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الواردة فى المواد من ٢٢ إلى ٢٧ فتشمل حق كل فرد فى الضمان الاجتماعى وحقه فى العمل وحقه فى الراحة وفى مستوى من المعيشة يكفل له الصحة والرفاهية، وحقه فى التعليم وفى الاشتراك فى حياة المجتمع الثقافية.
■ هذا وقد جاءت المواد الختامية للإعلان من ٢٨ إلى٣٠ لتؤكد حق كل إنسان فى التمتع بنظام اجتماعى تتوافر فيه الحقوق والحريات السابقة توافرًا كاملًا، وتبرز فى نفس الوقت الواجبات والتبعات التى تقع على عاتق الفرد حيال مجتمعه.
■ وفى عام ١٩٧٦، وبعد مضى نحو ٣٠ عامًا على إصدار الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، أصبح القانون الدولى لحقوق الإنسان حقيقة واقعة، بعد أن أبرمت الدول ثلاث وثائق ملزمة، خرجت إلى حيز التنفيذ وهى:
١- العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
٢- العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية.
٣- البروتوكول الاختيارى الملحق بالعهد الثانى والخاص بشكاوى الأفراد ضد انتهاكات حكوماتهم لحقوق الإنسان.
■ على أن قيمة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين والبروتوكول الاختيارى لا تتمثل فى مجرد صدور هذه المواثيق والتزام الدول المصدقة عليها بها، وإنما تمتد إلى أكثر من ذلك بكثير فيما أدت إليه من تأثير على قوانين ودساتير الدول التى أعملت هذه المواثيق، وكذا فيما أعقب صدور هذه المواثيق من تبنى لقرارات عديدة من مختلف أجهزة الأمم المتحدة، أو الدعوة لإبرام اتفاقيات دولية متخصصة، أو تشكيل نوعية فى مجال أو أكثر من مجالات حقوق الإنسان.
■ ولقد شهد مسار قضية حقوق الإنسان تطورات هامة عبر تاريخها منذ تبلورها، إلا أن أهم تطور لحق بها هو الذى تشهده الحياة الدولية فى الوقت الحالى، حيث انتقلت تلك القضية فى ظل النظام العالمى الجديد من قضية تتعلق بالقانون الدولى الذى يرتب عادة التزامات على الدول التى وافقت وصدقت على المواثيق الخاصة بها، إلى قضية ذات طابع سياسى عام تمثل أحد المعالم الرئيسية للنظام العالمى الجديد. فالمرحلة الحالية تشهد تجاوزًا هامًا لعملية الطرح السابقة لحقوق الإنسان فى ظل اعتبارات قانونية تفصل بوضوح بين ما هو داخلى وما هو خارجى، إذ لم تعد تلك القضية من قضايا السيادة الوطنية التى لا يجوز التدخل فيها، وأصبحت إلى حد كبير من القضايا الحاكمة فى العلاقات الدولية، والتى تتوقف على احترام الدولة لها وقدرتها على الحصول على المساعدة الاقتصادية، والمكانة الدولية، وقدرتها على إيجاد حصانة معينة لسيادتها القومية، فى مواجهة واقع دولى جديد يتمثل فى اتجاه عام لطرح حقوق الإنسان كقضية دولية يوجد حقًا ما للدول الأخرى فى الحديث عنها، والتحرك بصورة معينة من أجل حمايتها. وبصرف النظر عما إذا كنا نقبل هذا الواقع الجديد، أو لا نقبله فإنه واقع لا يمكن تجاهله، أو التصرف وكأنه غير قائم.
■ وبالتوازى مع هذا التطور – وربما بسببه - تصاعد الاهتمام العالمى من جانب كافة المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية بقضية احترام حقوق الإنسان داخل دول ومناطق العالم المختلفة. ومن المتوقع أن تشهد السنوات القادمة تصاعدًا هائلًا فى الاهتمام بتلك القضية كتطور طبيعى للاتجاه العالمى الحالى. وهو ما يعنى أن كافة الدول – شاءت أم لم تشأ – ستجد نفسها مدفوعة للالتزام بحقوق الإنسان، ليس فقط من خلال إصدار مواثيق، أو تأكيدات لفظية، أو غير ذلك من الالتزامات الشفوية، بل من خلال الممارسات العملية التى لم يعد من الممكن إخفاؤها أو المساومة عليها، لا سيما وأن مصداقية أية دولة فى الفترة القادمة، كذلك مدى قبول المجتمع الدولى للتعامل معها، سوف يتوقف على احترامها الفعلى لحقوق الإنسان.
■ يبقى بعد هذا كله أن جوهر قضية الإنسان هو أنها ليست مجرد إقرار المواثيق الدولية والدعوة للالتزام بها فحسب، وإنما احترام وتنفيذ ما جاءت به المواثيق من مبادئ وحريات فى واقع الحياة العملية.
■ وواقع الأمر أن هناك جدلية بين حقوق الإنسان والديمقراطية: فبدون ديمقراطية حقيقية لا يمكن أن تتحقق ممارسات فعلية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. كما أن هذه الحقوق والحريات لصيقة بقضية التنمية: إذ بدون تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، تكون الحقوق والحريات مجرد أفكار خيالية أو مجرد ميزة تتمتع بها القلة القادرة ولا تشعر بها أو حتى تسمع عنها الأغلبية المحرومة!
■ وفى تقديرنا أن هاتين القضيتين الأساسيتين المرتبطتين ارتباطا وثيقا بواقع حقوق الإنسان العربى (قضية الديمقراطية وقضية التنمية) تحتاجان إلى دراسات تفصيلية أكثر عمقًا.
■ ولما كنا نسلم بأن قضية حقوق الإنسان ليست مجرد قضية شعارات ومؤتمرات وقرارات، وإنما بالدرجة الأولى قضية وعى بهذه الحقوق وممارسة لها، فإننا نعتقد أن تعريف الشباب بهذه الحقوق وتربيتهم على احترامها يجب أن يحتل أولوية خاصة فى برامج الأجهزة المسؤولة عن التربية والتعليم والثقافة والإعلام، فى مصر وباقى الأقطار العربية.
■ وإذا كان لنا من كلمة أخيرة، فإن حقوق الإنسان العربى وحرياته الأساسية حقوق وحريات أصلية لا يمكن التنازل عنها، وتنبع من ثوابت راسخة فى التراث الفكرى للأمة العربية، وفى نضال شعوبها من أجل الحرية والعدل والمساواة، وتستند فى ذات الوقت إلى المبادئ العامة فى الدساتير العربية. ويجب ألا يغيب عن البال لحظة واحدة أن قضايا حقوق الإنسان وتأكيدها والتصدى لحمايتها والدفاع عنها تبقى مسؤولية كل الأحرار، فى كل زمان ومكان، ومهما كانت التضحيات.
نقلاً عن المصري اليوم